¶ مقالات ¶ « أُمَّة .. أحمق من دُغَة !! »

أُمَّة .. أحمق من دُغَة !!

« أحمق من دُغَة » هذا مثل تضربه العرب للمبالغة في وصف الحماقة ، فهم يقولون : أحمق من دُغَة لمن اشتد حمقه ، ودُغة هذه هي امرأة عمرو بن جندب بن العنبر ، ويحكون في وصف ما عندها من الحماقة الشيء العجيب ، فمن ذلك أنها نظرت إلى يافوخ ولدها يضطرب وكان قليل النوم كثير البكاء فقالت لضرتها : أعطني سكينًا فناولتها سكينًا وهي لا تعلم ما انطوت عليه فمضت وشقت به يافوخ ولدها فأخرجت دماغه ، فلحقتها الضرة فقالت : ما الذي صنعت ؟ فقالت : أخرجت هذه المدة كلها من رأسه ليأخذه النوم فقد نام الآن !.

وقيل أنه دُغَة : دويبة ـ أي دابة صغيرة ـ وقال بعض أهل اللغة أنه اسم للفراشة ، قالوا : وإنما تحمق لهجومها على السراج حتى تحترق .

هذه هي دُغة .. التي يضرب بها المثل ، وأيًّا كان الأمر فهذه الحماقة تتضائل ، بل ولا تكاد توصف عندما تقارن بحماقة أمة الإسلام اليوم !.

أجل !!.. فلن تجد أمة في التاريخ تنازلت عن مقدساتها ـ طواعية ـ لأعدائها ومنحتها إياهم بلا مقابل ؛ فلما ساموها سوء العذاب ذهبت تستنجد بهم ، وتطلب منهم المعونة والحماية والنصر والتأييد : مثلما فعلت أمة الإسلام اليوم مع أرض فلسطين والمسجد الأقصى .

وأظن أنه لو قدر للعرب يومها أن يطلعوا على حال أمة الإسلام اليوم لكنا نحن مضرب الأمثال لحماقة ليس لها نظير في تاريخ الشعوب جمعاء !.

وإلا فبالله عليكم ما هو الوصف الذي يستحقه الذي يأمن عدوه ، بل ويستنجد به منه ثم يعلن أنه لن يقاتل عدوه أبدًا مهما فعل معه من إيذاء ؟!

لست أكتب ساخرًا .. أبدًا والله ، فأنا أحد أفراد هذه الأمة المنهكة المنكوبة ، يحزنني ما أحزنها ، ويسوؤني ما ساءها ، ولكنها مرارة حزنٍ مظلمٍ موحشٍ مُرٍّ كئيبٍ : خيم على نفسي ، وأطبق على قلبي ، لما يحصل اليوم مما تنقله وسائل الإعلام عن محاولات هدم للأقصى ، وحصارٍ لأهل غزة وإبادة لشعب أعزل بأكمله ، مما يعلمه القاصي والداني من قتل وتشريد وانتهاك واغتصاب وفُجر وتعذيب و ...

أمسك بقلبك أن يطير مفزعًا
وتول عن دنياك حتى حين

فالهول عاتٍ والحقائق مرة
تسمو على التصوير والتبيين

إننا اليوم قد بُلينا فيما بُلينا به بتسطيح القضايا ، فقضية فلسطين قضية أعمق بكثير مما قد يتصوره البعض ، فليس الأمر مجرد صراع بين اليهود والفلسطينيين ، بل إن الأمر أعمق من ذلك بكثير ، فالصراع مع اليهود ليس خاصًا بأبناء فلسطين ، و محاولات هدم المسجد الأقصى ليست بأعظم عند الله من إراقة دماء المسلمين ، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم : ( لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق ) [ رواه ابن ماجة من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه وصححه الألباني ] .

أما الحلول فهي مختزلة في محاولة إظهار غضب الشعوب وفقط ..

إن تسطيح قضية الأقصى وفلسطين هو وباء منيت به الأمة كلها اليوم ، وأنا لا أتكلم على المستوي الرسمي للحكومات ، فإن أقل ما توصف به أنها حكومات عميلة فهي مع اليهود في خندق واحد ، وما المفاوضات ثم المفاوضات التي تجرى إلا ذرًا للرماد في العيون ، ومن ظن أن الحكومات قادرة على التحرك متى أرادت فهو غر (أحمق) لا يدري شيئًا عن السياسة !!.

لكني أتحدث على مستوى الشعوب ، ولن أذهب بكم بعيدًا ، لكني أقول لو أن الأمة اليوم عاملت إخوانها المسلمين في فلسطين معاملتها لرغيف العيش الذي تأكله لتغير الحال وتبدل ! .

أجل : الشعوب اليوم أقصى ما تستطيعه هو الخروج في مظاهرات ، ثم تهدأ القضية والسلام ، ناهيك عما خدرت به الشعوب من قناعة بأن الفلسطينيين هم من فرطوا في الأرض ، وأن السبب في كل ذلك أنهم منقسمون ، وأنهم يجب أن يتحدوا أولا ، وأن الواجب عليهم ألا يذعروا عدوهم ، و ..و..إلى غير ذلك من المبررات ، وصار غضب الشعوب لا يتعدى غضب الرجل الذي حزن على موت كلبه من العطش وبيده الماء الذي يحتاجه كلبه ، لكنه يرى أن أقصى ما يستحقه الكلب هو الحزن وكفى !
أي سُخف هذا الذي نعيش فيه ونتجرعه ونتذوقه ؟.

أيها الكرام :

إن مما يزيد المصاب وينكأ الجرح أن تجد تلك (الحماقة) المتمثلة في تسطيح القضايا قد تسربت إلى العديد من أبناء الصحوة اليوم الذين ينتظر منهم أن يكونوا هم مشاعل النور لهذه الأمة المنهكة .

فهذا أحدهم يرسل لك رسالة يحثك فيها على الدعاء وهذا أمر حسن بلا شك ، أما أن يقول أن إرسال الرسالة هو الجهاد الآن فهذا والله أمر عجيب !.

وآخر يدخل معك في جدال عقيم ليبين لك إلى أن الضغط على الحكومات عبر المظاهرات لا يقل بحال عن الجهاد بالنفس والمال ، بل هو الجهاد الواجب على الأمة الآن ..

وإن تعجب فاعجب لمن قاتل اليهود بيده ، وكان في خط المواجهة معهم ، ثم ذهب يتنازل عن الثوابت الشرعية التي تحفظ له النصر ، ويذهب باحثًا عنه في المحافل الدولية ، عاقدًا الأمل كله على تدويل قضيته ، ظانًا أنه بإظهار التسامح والضعف سيلقى مناصرة الغرب الذين هم في الواقع أحد الأعداء ! ..

أما كفانا تسطيحًا للقضايا أيها الناس ! .

إن القدس لن يعود للأمة بغير الجهاد ، وحماية الأقصى وفلسطين ليس واجبًا على أبناء فلسطين وحدهم ، بل هو واجب على كل عربي وأعجمي نطق بشهادة التوحيد ودان بدين الإسلام .

هذه حقيقة ينبغي ألا تغيب عن ذهن أي عامل لدين الله قط ، وأقول : الجهاد الذي أعنيه هو قتال الكفار الذي فيه إزهاق الأرواح والنفوس .

أقول ذلك بمنتهى المرارة والأسى إذ قد أفرز إلينا الواقع أنواعًا من الجهاد غريبة مثل جهاد الحناجر وجهاد الرسائل وغدًا سيكون جهاد القُبُلات !!

نعم .. هذه الحقيقة ينبغي أن تكون واضحة لكل الفصائل التي تعمل للإسلام اليوم على اختلاف مسمياتها واهتماماتها .
ولا بد أن يكون واضحًا أن ما يحصل اليوم هو نتاج سنوات عديدة من التفريط والانحلال ، ومن أراد الجهاد حقًّا فليعدّ للأمر عدّته .. فلن تعود القدس أبدًا حتى يكون الجهاد قضية أمة وشعب وأفراد حققوا الالتزام في أنفسهم حقًّا ومكنوا لدين الله في أنفسهم حتى يمكن الله لهم في الأرض .

وإذا كان الأمر كذلك فإن طريق الجهاد يبدأ – شئنا أم أبينا - من إقامة الشخصية المسلمة الملتزمة المتزنة علمًا وعملاً ودعوة : في أنفسنا أولًا ، وفي غيرنا ثانيةً ، إلى أن يتغير الواقع من حولنا ، ويتيسر لنا من الأمور ما ليس بمقدورنا الآن ، فنحن اليوم وإن كنا لسنا قادرين على الجهاد الذي يناط به استرداد ممتلكات الأمة المنهوبة ، إلا أنه ينبغي علينا أن نبذل ما في وسعنا حتى ييسر الله ما ليس في وسعنا الآن .

وما نفعله اليوم من خطوات في طريق ذلك الجهاد الطويل هي أمور لا بد منها ، لكن دون أن نغفل عن أن تلك الخطوات ما هي إلا وسيلة للحل الذي لا حل غيره ، فلا تتحول تلك الخطوات لتكون هي الغاية القصوى والأمل المنشود .

وليكن واضحًا أن القدس لن تعود على يد تارك للصلاة ، أو نائم عن صلاة الفجر ، أو مفرط في دينه ، تارك حريمه بلا حجاب ، تارك لأداء الزكاة ، ولو ظل يصرخ طيلة عمره من أجل الأقصى والجهاد .

لن تعود القدس على يد محارب للمنتقبات في الجامعات ، أو متخاذل عن نصرتهن بما يقدر ..

لن يعود الأقصى بأيدي أناس يحقرون من العلم الشرعي أو يفرطون في عبادات اليوم والليلة وأورادها ، أو ينشغلون من أجل (كسب لقمة العيش) عن البذل للدين والعمل من أجله ..

لن يعود القدس على يد أناس يرون رؤوس الخيانة : ولاة أمر شرعيين (بل ومعصومين ! ) ..

لا لن تعود القدس على أيدي هؤلاء أبدًا ، فهذا قدر الله الكوني والشرعي .

إنما يعود الأقصى بأناس حققوا التوحيد علمًا وعملًا وسلوكًا ومنهجًا كما قال تعالى : (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنًا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ) .

أما الذين ينتظرون من الحكام أن يفعلوا شيئًا فأقول لهم : كفاكم سذاجة ، فأنتم تستغيثون بأعدائكم ، وإذا كان المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين ؛ فكيف بالله عليكم من يلدغ من جحر سبعين عامًا كاملة ..

أيها الكرام :

إن معركة الجهاد ليست ( مباراة كرة قدم ) تحتاج إلى مشجعين متحمسين لأفراد الفريق وفقط !..
إن معركة الجهاد تحتاج إلى أمة شمرت عن ساعد الجد ونفضت عنها الكسل والنوم والدعة والخمول ، واستمسكت بكتاب ربها وسنة نبيها وشاركت كلها في المعركة كل بحسب قدرته .
نعم .. إن هذا لمتعذرٌ اليوم ، ولكن لا ينبغي أن يكون ذلك أبدًا سبب لتغيير الحل أو للبحث عن بدائل .
بل إن كان ذلك متعذرًا اليوم فلنعمل بكل جد وقوة لكي نصل إلى ذلك المتعذر .
ويجب عليك أن تعلم أن البذل للدين قضية لا تُعطى فتات الأوقات إنما يجب أن تكون هذه القضية هي شغلك الشاغل .
وأن الطريق إلى الجهاد المنشود هو أن تعود الأمة كلها إلى ربها وأن تعمل الأمة كلها على نصرة الدين والتمكين لشريعة الرحمن .

واعلم أن ما هدم في سنوات لا يمكن أبدًا أن يبنى في لحظات ..
فلا تستصغرن اليوم ما هو متاح لك ، وأنا لا أحقر أبدًا من محاولات الإيقاظ ، لكن الذي أمقته أن تتحول محاولات الإيقاظ إلى أن تكون هي الغاية القصوى والحلول المرجوة .

ألا فليعمل كل إنسان بما يستطيع مما هو مشروع مفضٍ إلى مصلحة ناجزة تفوق مفسدة محتملة ، ولا تحقرن من المعروف شيئًا وأَرِ الله من نفسك خيرًا : جاهد بما تستطيع من مالك ولسانك ونفسك كما في الحديث الذي رواه أنس رضي الله عنه مرفوعًا : (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم ) [رواه أبو داود وصححه الألباني ]..
تعلم العلم ، واعمل به ، وادع إليه ، واصبر على ما ستلقاه في سبيل ذلك ، كما قال تعالى في سورة العصر : ( والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ).

واعلم أنه من الحماقة بمكان أن تلقي سلاحًا تملكه لكي تحصل على سلاحٍ لا تملكه ، بل ولا تملك السبيل إليه ، فالذي سيدع الدعاء وما يستطيعه من البذل لأجل أنه لا يستطيع الجهاد : اعذروني إن قلت لكم : هو أيضًا .. أحمق من دُغَة ..


والله المستعان .

بقلم / مدونة مختارات سلفية

المقال بصيغة وورد


هناك تعليقان (2):

مسلم يقول...

جزاكم الله خيرا

لن يعود إلا بالجهاد

غير معرف يقول...

جزاك الله خيرا مقال رائع